نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الكانتونات الطائفية: سيناريو التقسيم المتدحرج في سوريا برعاية إسرائيلية - كورة نيوز, اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025 02:36 مساءً
بين دخان السويداء ولهيب الساحل، تخرج ملامح مشهد سوري مأزوم، لا تصنعه فقط البنادق، ولا تُحرّكه فقط الصراعات المحلية، بل ترسمه بصمتٍ أيادٍ خارجية تُعيد تشكيل الجغرافيا على إيقاع الدم والهوية.
ما يجري ليس مجرد جولة جديدة من القتال، بل تحوّل خطير في طبيعة الحرب، عنوانه العريض: “الكانتونات الطائفية”، وراعيه الفعلي: الكيان الإسرائيلي.
الأسبوع الدموي في السويداء كشف حجم التصدّع داخل الجغرافيا المجتمعية في سوريا. أكثر من ألف قتيل في غضون أيام قليلة، مجازر متبادلة، تهجير قسري، وتدخل عسكري إسرائيلي مباشر تحت راية “حماية الدروز”. الطيران الحربي الإسرائيلي لم يكتفِ بطلعات الاستطلاع، بل استهدف مواقع حساسة في دمشق والسويداء ودرعا، من بينها وزارة الدفاع ومحيط قصر الشعب، في استعراض نادر للنية والرسالة.
بموازاة ذلك، تحركت القوات الإسرائيلية برّاً من الجولان السوري المحتل في ريف دمشق الجنوبي، ووصلت إلى بلدة قطنا على بُعد 10 كلم من العاصمة دمشق، في خطوة استعراضية أعادت إلى الأذهان نموذج “الحزام الأمني” الذي أسّسته تل أبيب في جنوب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي. وبين خطاب نتنياهو العلني الداعم لدروز الجنوب، وتصريحات المؤسسات الأمنية الإسرائيلية حول ضرورة نزع سلاح الجنوب السوري، تتبلور معالم مشروع لا يخفى: منطقة عازلة تمتد من الجولان حتى جبل العرب، يُمنح فيها الدروز امتياز الحماية مقابل التموضع والانفصال.
السيناريو ليس وليد الاشتباكات فحسب. ففي منطقة الساحل، التي يقطنها غالبية من أبناء الطائفة العلوية، سُجّلت في الأسابيع الماضية مجازر على خلفيات طائفية، راح ضحيتها نحو 1700 مدني، وثّقتها منظمات حقوقية دولية وشهادات حيّة، في واحدة من أسوأ موجات العنف المنفلت خلال سنوات الحرب. أعمال فرز طائفي وإعدامات ميدانية موثّقة، نفذها مسلحون وُصفوا بأنهم موالون للنظام، ضد أهاليهم، في مشهد عبثي يعكس حجم التفكك وانهيار الضوابط.
هناك أيضاً طُرحت الأسئلة ذاتها: من يُشعل الفتنة؟ ولماذا الآن؟ ومن المستفيد من توسيع دوائر الاشتعال الطائفي؟
في خضم هذا التوتر الطائفي، بدا لافتًا عودة الحديث عن سيناريوهات تقسيم سوريا إلى كانتونات مذهبية بحكم الأمر الواقع. هذه الفكرة ليست جديدة، وقد طُرحت منذ بدايات الحرب، حين تحدّثت بعض التحليلات الغربية عن “سوريا المفيدة”، أي بقاء الدولة المركزية محصورة في نطاق جغرافي طائفي ضيّق يمتد من دمشق إلى الساحل. ما تغيّر اليوم هو أن هذه السيناريوهات باتت أقرب إلى التنفيذ بفعل التهشيم الميداني والتدخّل الخارجي المباشر.
ما يجري في الجنوب والساحل السوري لا يمكن قراءته بمعزل عن نمط تفكيكي عرفته أكثر من دولة عربية خلال العقدين الماضيين. من العراق، الذي أُعيد رسمه بفيدرالية كردية شبه مستقلة، وصولًا إلى ليبيا المنقسمة بين حكومتين وجبهات وقوى أجنبية، تبدو خارطة العالم العربي أشبه بأرشيف مشاريع تفتيت ناجحة.
في كل مرة، يُستخدم البُعد الطائفي أو العرقي أو الجهوي كأداة اختراق، ويُعاد إنتاج السلطة على شكل كانتونات أمر واقع. الكيان الإسرائيلي – الذي لم يعد يُخفي طموحه في تأمين حدوده عبر “مناطق عازلة” و”شراكات مصلحية مع الأقليات” – يرى في تفتيت سوريا ضمانة استراتيجية، ليس فقط على المدى القصير، بل كصيغة أمنية طويلة الأمد تحمي حدوده من أي تهديد تقليدي أو مقاوم.
وسط هذه الصورة، بدا واضحًا أن التفاهمات الدولية التي تحركت لوقف إطلاق النار في الجنوب، برعاية أميركية – أردنية – سورية، ليست فقط مسعىً لاحتواء القتال، بل محاولة لرسم خطوط تماس جديدة، وإعادة هندسة النفوذ على الأرض. وقد جاء إعلان وقف إطلاق النار من دمشق، ترافقه بيانات الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين، ومواقف تصعيدية من مجلس العشائر، ليرسم توازنًا هشًّا بين قوى الأمر الواقع، لا يزال قابلاً للانهيار في أي لحظة.
الأخطر من كل ذلك أن مصطلح “حماية الأقليات” بات يُستخدم كسلاح سياسي. الكيان الإسرائيلي يُسوّق نفسه كـ”حامٍ للدروز”، والولايات المتحدة تدعو إلى محاسبة “كل المرتكبين من أي طرف”، بينما تُمارس الصمت الكامل تجاه ما يجري في غزة منذ أشهر. هنا تفقد “الفزعات” صدقيتها، وتنكشف بواطن الخطاب الطائفي المُغلّف بحقوق الإنسان، وكأنّ الإنسانية سلعة تُمنح ببطاقات طائفية، أو تُحجب بحسب الموقع السياسي والديموغرافي.
إنّ الأشد خطورة في هذه المعادلة هو أنّ الكانتون الطائفي ليس مجرد كيان محلي محصور في السويداء أو الساحل، بل هو نواة مشروع إقليمي يتجاوز سوريا. ومع تصاعد التحريض المذهبي، وظهور خطوط تماس اجتماعية داخل دول الجوار، ليس من المستبعد أن تتمدّد نيران هذا النموذج إلى ساحات أخرى قريبة. وحين تُمسّ التوازنات داخل مجتمعات متداخلة مثل لبنان، تصبح الفتنة قنبلة موقوتة تنتظر شرارة.
ما يحصل في سوريا اليوم ليس إعادة تموضع لفصائل، بل تمهيد ميداني لتكريس الكيانات المنفصلة. ومع كلّ جولة دم جديدة، تضعف فكرة الدولة المركزية، وتتعزز فكرة “الكانتون المحمي”، بغطاء إقليمي أو دولي، وتحت شعارات إنسانية مصطنعة.
وهنا بيت القصيد: الكيان الإسرائيلي لا يحمي أحدًا، بل يُهندس الفوضى ويبني على الأنقاض. فتـل أبيب، التي لطالما استثمرت في ضعف جيرانها، ترى في تفتيت سوريا فرصة استراتيجية لضمان أمنها لعقود قادمة، دون الحاجة إلى حرب.
كل هذه المعطيات، من التدخل الميداني إلى خطاب الحماية، تقود إلى خلاصة واضحة: ما يجري ليس صدفة، ولا تصعيدًا عابرًا. إنه سيناريو تقسيم متدرّج ومتدحرج، تُديره قوى خارجية وتنفّذه مجموعات محلية، ويُمرّر تحت عنوان “حماية الأقليات”. والنتيجة: سوريا مهددة بأن تتحول إلى رقع مذهبية متناحرة، وسط صمت دولي مريب، وعجز داخلي مدوٍّ. والخطر كل الخطر، أن تتكرر هذه التجربة على امتداد المنطقة، فنشهد كيانات مذهبية “محميّة” فوق ركام الدول.
وفي النهاية، يبقى السؤال المعلّق: هل ستنجح سوريا، بكل تضحياتها ونكباتها، في الخروج من نفق التفتت المذهبي، أم أنّ المرحلة المقبلة ستُكرّس واقعًا أكثر خطورة، عنوانه: “سوريا الكيانات” بدلًا من “سوريا الدولة”؟
المصدر: موقع المنار
0 تعليق