حدود مصر تبدأ من وراء الحدود القاهرة ترفع شعار "الردع بالسياسة" بـ3 لاءات: لا حل في ليبيا من غير الليبيين..ولا تفريط في السودان.. والصومال شريك لا تابع - كورة نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حدود مصر تبدأ من وراء الحدود القاهرة ترفع شعار "الردع بالسياسة" بـ3 لاءات: لا حل في ليبيا من غير الليبيين..ولا تفريط في السودان.. والصومال شريك لا تابع - كورة نيوز, اليوم السبت 12 يوليو 2025 11:19 مساءً

 

الرئيس السيسي يؤسس لنموذج شراكة طويلة الأجل يعيد الاستقرار من الجوار الإقليمي إلى القرن الإفريقي

تحوّل نوعي في السياسة المصرية الخارجية قائم على بناء قدرات الدول الشريكة لا مجرد دعمها ظرفيًا

 

 

في توقيت بالغ الحساسية إقليميًا، اختارت مصر، مدينة العلمين الجديدة لتكون منصة لاستقبال قادة محوريين في فضائها الجغرافي الممتد من الغرب الليبي إلى القرن الإفريقي، لم تكن لقاءات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح، والمشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ثم الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، مجرد مناسبات بروتوكولية، بل رسائل استراتيجية مُحمّلة بالدلالة الجغرافية والوظيفية، تعيد ترسيم خطوط العمق المصري بأبعاد أكثر وضوحًا وحزمًا.

العلمين الجديدة، كمدينة ناشئة تطل على المتوسط، لم تعد مشروعًا تنمويًا فحسب، بل تحولت إلى مركز سياسي بديل عن العواصم التقليدية، تُدار فيه الملفات الكبرى التي تتقاطع عندها خطوط الأمن القومي المصري، وهذا التموضع الرمزي يعكس إدراكًا مصريًا متقدمًا بأن إعادة تثبيت الاستقرار في المجال الإقليمي الجنوبي – سواء في ليبيا التي تتجاذبها الأجندات، أو السودان الغارق في صراع داخلي، أو الصومال الذي يمثل بوابة البحر الأحمر – هو ضرورة وجودية تتجاوز حسابات اللحظة إلى اعتبارات أمن مستدام.

وتؤسس القيادة السياسية من هذا المركز الجديد لرؤية سياسية تستند إلى مبدأ "الربط بين الأمن والتنمية"، وتعيد التأكيد على محددات ثابتة في سياستها الخارجية: وحدة الدول، ودعم الجيوش الوطنية، ورفض التدخلات الأجنبية، والعمل على تمكين الدول من استعادة وظائفها السيادية، وفي قلب كل ذلك، يظهر الإدراك المصري بأن أمن الدولة لا يبدأ من حدودها، بل من مساحات التأثير التي تتحرك فيها الجغرافيا والسياسة معًا، من سرت إلى مقديشو، بما يؤكد استراتيجية "الردع بالسياسة"، حيث تحصّن مصر حدودها بالتحركات الإقليمية. 

أمن ليبيا لا يتجزأ من أمن مصر القومي

في مشهد يعكس رسوخ العقيدة الاستراتيجية المصرية تجاه حدودها الغربية، احتضنت مدينة العلمين الجديدة لقاءين متتاليين للرئيس عبد الفتاح السيسي مع قيادتين محوريتين في المشهد الليبي: المشير خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطني الليبي، والمستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي. لم يكن التوقيت ولا المكان عابرَين، فالعلمين الجديدة، التي أضحت منصة دبلوماسية بديلة للعاصمة، تستقطب حوارات تخص الأمن الإقليمي، وفي القلب منها ليبيا، الدولة الجارة التي ظلت لعقد كامل مسرحًا للصراع والانقسام والتدخلات الأجنبية.

وخلال اللقاءين، أعاد السيد الرئيس التأكيد على موقف القاهرة الثابت، أن أمن ليبيا واستقرارها ليس فقط مصلحة سياسية، بل هو امتداد مباشر للأمن القومي المصري، وهذه الصيغة لم تعد مجازًا، بل تحولت إلى مبدأ توجيهي يحكم تحركات الدولة المصرية، سواء على مستوى التنسيق الأمني والاستخباراتي، أو عبر مسارات التسوية السياسية والدعم التنموي.

في لقائه مع المشير حفتر، شدد الرئيس السيسي على "خصوصية العلاقات الأخوية" التي تربط مصر بليبيا، مبرزًا دور الجيش الوطني الليبي في مكافحة الإرهاب، لا سيما في شرق البلاد، باعتباره شريكًا أساسيًا في محاربة التنظيمات المسلحة التي تهدد الاستقرار على جانبي الحدود، وهي رسالة كانت واضحة في أن القاهرة ترى في الجيش الليبي ركيزة رئيسية لاستعادة الدولة ومنع تفككها، وتعتبر دعم المؤسسة العسكرية جزءً من تحصين المجال الحيوي المصري، وأنه يمكن البناء على ما حققه في توحيد المؤسسة العسكرية.

وفي المقابل، اتسم اللقاء مع المستشار عقيلة صالح بلغة سياسية أكثر توازنًا، عبّرت عن دعم مصر للمسار التوافقي الليبي، والحاجة إلى خارطة طريق تضمن توحيد المؤسسات، وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بشكل متزامن، وهي رؤية لا تظهر ثوابت الدولة المصرية تجاه الأزمة الليبية، حيث تعكس إدراكًا دقيقًا بأن الحل في ليبيا لا يمر فقط عبر الحسم العسكري، بل يتطلب صيغة سياسية شاملة تنهي حالة الازدواج المؤسسي، وتضمن تمثيلًا حقيقيًا للشعب الليبي في سلطة موحّدة.

كما لم تغب الملفات السيادية عن المشهد، فقد شدد الرئيس في كلا اللقاءين على ضرورة خروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة، باعتبار أن أي استقرار حقيقي يبدأ بتحرير القرار الليبي من الضغوط الخارجية، وهذه الرسالة، الموجهة ضمنًا لأطراف إقليمية ودولية فاعلة، تضع القاهرة في موقع الضامن للاستقلال الليبي، بعيدًا عن المحاور أو الاصطفافات.

ولا تتوقف المقاربة المصرية عند الجوانب الأمنية والسياسية فحسب، بل تمتد إلى إعادة الإعمار والتنمية، حيث أكد الرئيس السيسي استعداد بلاده لنقل تجربتها التنموية إلى ليبيا، ومشاركة الشركات المصرية في مشاريع البناء والتأهيل، بما يُعيد الحياة إلى البنية التحتية الليبية التي أنهكها الصراع.

المؤكد أن الحضور المصري في الملف الليبي ليس ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة تفرضها الجغرافيا والتاريخ والمعادلات الإقليمية، فمصر، التي دفعت ثمناً باهظاً في العقد الماضي لموجات الفوضى على حدودها الغربية، تبلور الآن سياسة متماسكة قوامها دعم المؤسسات الوطنية، ورفض الانقسام، وتكريس الأمن عبر أدوات متعددة: من الحوار السياسي إلى الدعم العسكري، ومن الوساطة الدبلوماسية إلى الشراكة التنموية.

في هذا الإطار، تبدو القاهرة أكثر وعيًا من أي وقت مضى بحساسية التوازنات داخل ليبيا، وتُدرك أن تعدد مراكز القوى لا يمكن التعامل معه بمنطق الاصطفاف، بل عبر سياسة "الانخراط المتوازن"، التي تُبقي قنوات الاتصال مفتوحة مع كافة الأطراف الليبية الوطنية، دون الانزلاق إلى تناقضات المحاور الإقليمية المتصارعة على النفوذ، ومن خلال هذا الانخراط، تسعى مصر إلى الدفع نحو توافق داخلي ليبي يحظى بقبول شعبي، ويُفضي إلى سلطة مدنية موحّدة قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية بعيدًا عن الإقصاء أو الغلبة.

كما يعكس الحضور المتزامن لرموز ليبية مدنية وعسكرية بمدينة العلمين، تصورًا مصريًا متقدمًا حول إدارة الملف الليبي، يقوم على فكرة التوازي بين المسارين السياسي والأمني، والاقتناع بأن هندسة الاستقرار في ليبيا لا تُبنى فقط على وقف القتال أو إعادة الإعمار، بل على توافر بيئة إقليمية داعمة لسيادة القرار الليبي، ومناخ داخلي مهيأ للتوافق، وهو ما تعمل عليه القاهرة من خلال علاقاتها مع القوى الدولية، وحرصها على تحييد ليبيا عن صراعات النفوذ المتعددة على الساحة الإفريقية.

لا مجال للتهاون في سلامة السودان وسيادته

وفي واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ السودان الحديث، جاءت استضافة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي للفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بمدينة العلمين الجديدة كرسالة مزدوجة: دعم غير مشروط لوحدة السودان، ورفض صريح لأي عبث بجغرافيته السياسية أو توازناته الداخلية، فاللقاء، الذي جاء في ظل تصاعد التحديات الميدانية والمعاناة الإنسانية الواسعة، يعكس إدراكًا مصريًا راسخًا بأن السودان ليس فقط دولة جارة، بل عمق استراتيجي لا يمكن التفريط فيه أو تركه رهينة للفوضى الإقليمية.

ومنذ اندلاع الأزمة السودانية، حافظت القاهرة على خطاب متزن، يوازن بين ضرورة استعادة الدولة السودانية لوحدتها ومؤسساتها، وبين احترام خيارات شعبها في بناء نموذج حكم مستقر، وهو ما أكده بيان رئاسة الجمهورية، فالسيد الرئيس السيسي لم يكتفِ في لقائه مع البرهان، بتجديد "ثوابت الموقف المصري"، بل أكد على استعداد مصر لبذل "كل جهد ممكن" لاحتواء النزاع، وهي صيغة تنطوي على مرونة تقدم القاهرة من خلالها نفسها كوسيط موثوق لكل الأطراف، بما يضمن وحدة الشعب الشقيق.

الأولوية المصرية، كما يظهر من البيان الرئاسي، ليست فقط في وقف إطلاق النار أو تهدئة المواجهات، بل في استعادة الدولة السودانية بكامل وظائفها السيادية والتنموية، وهذا ما يفسر حرص القاهرة على إدخال ملف "إعادة الإعمار" ضمن أجندة المحادثات، إلى جانب ملفات التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي، فالقيادة السياسية تدرك أن استقرار السودان لن يتحقق فقط بالوساطات أو التوافقات السياسية، بل يحتاج إلى اقتصاد فاعل ومؤسسات قادرة على تقديم خدمات تخلق مناخًا آمنًا للحياة السياسية والاجتماعية.

وإلى جانب الداخل السوداني، حمل اللقاء أيضًا رسائل إقليمية واضحة، فقد تناول الجانبان ملفات شديدة الحساسية تتعلق بـ"أمن حوض النيل ومنطقة القرن الإفريقي"، في ظل ما تشهده هذه المناطق من تحولات استراتيجية، بالإضافة إلى التشديد على "رفض الإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق" وهو ما يأتي في إطار سياسة مصر الثابتة في مواجهة محاولات فرض الأمر الواقع المائي، خاصة من قبل إثيوبيا، بما يظهر تناغماً بين القاهرة والخرطوم في رفض الاستئثار بموارد النهر، والدعوة لاحترام قواعد القانون الدولي بما يحفظ حقوق جميع الأطراف.

المؤكد أن مصر لا تنظر إلى السودان من زاوية أمنية ضيقة، بل من منظور استراتيجي أوسع: دولة شقيقة ومجاورة، تربطها بالقاهرة علاقات شعبية وتاريخية، وتُعد بوابة جنوبية حاسمة في معادلة الأمن القومي، ومن ثم، فإن وحدة السودان، وسلامة أراضيه، وقدرة مؤسساته على البقاء، تمثل – بالنسبة للقاهرة – خطًا أحمر لا مجال للتهاون فيه، سواء في ميدان السياسة أو في ساحات الإغاثة والدبلوماسية.

وفي ضوء هذا التوجه، تتحرك القاهرة برؤية استباقية لا تكتفي بانتظار مآلات النزاع السوداني، بل تسعى لتأمين حدودها الجنوبية ومنع تحوّل السودان إلى مصدر تهديد مستدام، سواء عبر تدفقات اللاجئين، أو تمدد الجماعات المسلحة، أو تفكك الدولة المركزية، ومن هنا، فإن مصر تنظر إلى المبادرات الإقليمية والدولية بعين ناقدة، وتتمسك بأن أي حل حقيقي لا بد أن يصدر من الداخل السوداني، بدعم صادق من الجوار، لا بإملاءات فوقية تُعيد إنتاج الأزمة في صيغة جديدة.

في الوقت نفسه، يرسّخ الخطاب المصري تصورًا متماسكًا عن "التكامل لا التبعية"، خاصة في ما يتعلق بالمشاريع المشتركة بين وادي النيل، وسبل ربط مصالح الشعبين في البنية التحتية والطاقة والزراعة، فالسودان، في نظر الدولة المصرية، ليس مجرد خط تماس سياسي أو حدود ممتدة، بل فرصة استراتيجية لتشكيل فضاء تنموي مشترك يعزز استقرار المنطقة، ويخلق توازنًا جيوسياسيًا أمام محاولات العبث الخارجي بتوازنات القرن الإفريقي.

خط دفاع متقدم عن أمن البحر الأحمر

في سياق إقليمي يتسم بالسيولة والتنافس الحاد على ممرات البحر الأحمر، تتحرك مصر بثبات نحو توسيع دوائر تأثيرها جنوبًا، مستندة إلى رصيد تاريخي من العلاقات مع دول القرن الإفريقي، وفي مقدمتها الصومال، حيث يعكس اللقاء الأخير بين الرئيس السيسي ونظيره الصومالي حسن شيخ محمود، هذا التحول من الدعم التقليدي إلى شراكة استراتيجية موثقة وواضحة المعالم، تقوم على مزيج من التعاون الأمني، والمساندة المؤسسية، والانخراط في تثبيت الاستقرار الإقليمي.

وبحسب بيان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، خلال جلسات المباحثات الثنائية والموسعة، برزت بوضوح أولوية مصر في تثبيت التوازن في منطقة القرن الإفريقي، انطلاقًا من أن أمن البحر الأحمر لا يمكن عزله عن أوضاع الداخل الصومالي، خاصة في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية، وعودة بعض القوى الإقليمية لتوظيف الساحة الصومالية كامتداد لصراعات النفوذ، وفي هذا الإطار، أكدت مصر التزامها بدعم بناء مؤسسات الدولة الصومالية، مع التركيز على إعادة تأهيل الكوادر العسكرية والأمنية، باعتبارها الأداة الأساسية لفرض السيادة على كامل التراب الوطني.

ولم يكن الحديث عن بروتوكول التعاون العسكري الموقع في أغسطس 2024 تفصيلًا شكليًا، بل تعبير عن رغبة متبادلة في نقل العلاقة من التنسيق إلى التكامل في إدارة التهديدات، فالقاهرة لا ترى في الصومال مجرد حليف بعيد، بل خط دفاع متقدم عن أمن البحر الأحمر، ونقطة ارتكاز في معادلة أمنية جديدة تتشكل من قناة السويس إلى باب المندب.

ضمن هذا التصور، تأتي مشاركة القوات المصرية في بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة كامتداد منطقي للدور المصري، مع التأكيد على ضرورة توفير تمويل مستدام لها، يضمن تنفيذ ولايتها دون ارتهان للضغوط الدولية، وهنا تتحرك مصر بسياسة مزدوجة: المشاركة في تثبيت الاستقرار ميدانيًا، والدفاع عن حق القارة في التمويل العادل لبعثاتها، بعيدًا عن الانتقائية التي كثيرًا ما تتعامل بها العواصم الكبرى مع الأزمات الإفريقية.

ولم يتوقف التحرك المصري عند الجوانب الأمنية، بل امتد إلى مساحات أوسع من التعاون السياسي والاقتصادي، في ضوء الإعلان السياسي المشترك الموقّع مطلع العام، والذي يستهدف نقل العلاقات إلى مستوى "شراكة استراتيجية شاملة"، وهذه الشراكة لا تُبنى فقط على المصالح، بل على إدراك متبادل لمخاطر التفكك والتدخلات، والحاجة إلى صيغة إقليمية تتجاوز الضعف المزمن الذي أصاب دول القرن الإفريقي في العقود الماضية.

وفي ظل الانكشاف الأمني الذي عانته الصومال، وانقسام النخبة السياسية داخليًا، تأتي القاهرة لتقدم دعمًا سياسيًا واضحًا لجهود الرئيس حسن شيخ محمود في تحقيق "اصطفاف وطني" يعيد الاعتبار لوحدة الدولة ومؤسساتها، فمصر – التي خاضت تجارب مماثلة من المواجهة مع الإرهاب وبناء مؤسسات الدولة بعد فترات اضطراب – تُقدم هنا نموذجًا تشاركيًا في الإدارة والتحول، لا يُمارس الوصاية، بل يُراكم الثقة.

واللافت أن الخطاب المصري تجاه الصومال لا يحمل نبرة مشروطة أو منطق "الداعم المانح"، بل يُبنى على رؤية تبادلية تعكس مصالح مشتركة في الأمن البحري، والسيطرة على خطوط التجارة، ومواجهة التنظيمات العنيفة، والحد من التمدد غير المنضبط لبعض الفاعلين الإقليميين الذين يفتقرون لرؤية شاملة لاستقرار المنطقة.

وفي العمق، تسعى مصر إلى ترسيخ معادلة أمنية جديدة في القرن الإفريقي، لا تستند فقط إلى الأدوات العسكرية، بل تقوم على دعم الدولة الوطنية، واستعادة السيادة، وإحياء مفهوم الشراكات الإفريقية بعيدًا عن هيمنة المحاور، وهو توجه يظهر بوضوح في تأكيد القاهرة على التشاور المستمر، ورفضها لأي حلول تُفرض من خارج السياق الإفريقي.

الرسالة من لقاء الرئيس ونظيره الصومالي واضحة: أن الصومال ليس ساحة نفوذ متروكة، بل شريك في معركة الاستقرار، وموقع محوري في حسابات الأمن البحري لمصر. وضمن مشهد سياسي وجيوسياسي يتغير بسرعة، تتحرك القاهرة لتأمين مجالها الحيوي، لا بالصدام أو المغامرة، بل بالتنسيق العميق، والدعم المؤسسي، والربط العضوي بين أمن الداخل المصري واستقرار الممرات البحرية التي تشكل شريانًا اقتصاديًا واستراتيجيًا بالغ الحساسية.

وفي هذا السياق، تُدرك القاهرة أن دورها في الصومال لا يُقاس فقط بحجم التمثيل الدبلوماسي أو الدعم الفني، بل بقدرتها على بناء نمط شراكة طويل المدى يعيد الثقة في فكرة الدولة، ويحول دون تكرار دورات الانهيار التي عاشتها مقديشو خلال العقود الماضية، وهنا تبرز خصوصية الطرح المصري: لا وعود فارغة، ولا تدخلات فوقية، بل تعاون يستند إلى فهم حقيقي لتعقيدات الداخل الصومالي، وخبرة مصرية متراكمة في إدارة ملفات إعادة بناء الدولة بعد فترات اضطراب.

وعلى المستوى الإقليمي، يُعيد هذا الانخراط المصري صياغة معادلة النفوذ في القرن الإفريقي، في لحظة تتكثف فيها محاولات قوى إقليمية ودولية لملء الفراغ في الساحة الصومالية، سواء عبر قواعد عسكرية أو اتفاقات أمنية انتقائية، ووسط هذا التنافس، تقدّم مصر نموذجًا غير تصادمي يعتمد على بناء الشراكات لا الاصطفافات، وعلى تثبيت الأمن عبر مؤسسات الدولة لا عبر المليشيات أو الوكلاء، وهو ما يمنحها مصداقية عالية في أعين شركائها، ويجعلها طرفًا مطلوبًا في هندسة مستقبل القرن الإفريقي.

مصر ترسم خرائط أمنها الإقليمي من جديد

من ليبيا غربًا إلى الصومال شرقًا، مرورًا بالسودان في الخاصرة الجنوبية، لم تكن التحركات الدبلوماسية المصرية الأخيرة مجرّد لقاءات عابرة أو مواقف تضامنية، بل إعادة تموضع استراتيجي شامل يؤكد أن الأمن القومي المصري لم يعد محصورًا داخل الحدود، بل يُصاغ عبر دوائر التأثير المتداخلة في الجوار القريب.

ففي ليبيا، حيث تشكّلت على مدار سنوات خطوط تماس معقدة، تمضي القاهرة في سياسة توازن دقيقة: دعم للمؤسسات الوطنية، وحرص على وحدة الأراضي الليبية، ورفض حاسم للتدخلات الخارجية، وفي السودان، تؤكد مصر أن استقرار هذا البلد ليس قضية جوار فحسب، بل جزء لا يتجزأ من بنية الأمن المصري، خاصة في ما يتعلق بملف النيل والأمن الإقليمي المتصل بحوضه، أما في الصومال، فالصيغة المصرية تتجاوز التضامن، نحو شراكة حقيقية في بناء الدولة، وتأمين البحر الأحمر، ومواجهة الإرهاب عبر أدوات شاملة تتجاوز البندقية.

وما يجمع بين هذه الدوائر الثلاث ليس فقط القرب الجغرافي، بل الوعي المصري العميق بأن أمنها الوطني لن يُحمى إلا بإعادة ضبط محيطها الاستراتيجي، وتثبيت قواعد جديدة للنفوذ ترتكز على التعاون، والاستقرار، وبناء المؤسسات، وليس على المحاور أو الهيمنة.

وها هي مدينة العلمين التي جمعت قادة هذه الملفات الثلاثة، لم تكن محطة لقاءات بروتوكولية، بل منصة لصياغة رؤية متماسكة لأمن إقليمي مشترك، تنخرط فيه مصر بدور مركزي ووازن، وهي رؤية تتأسس على أن التحديات الأمنية الجديدة عابرة للحدود، لا تعترف بالخرائط الرسمية، وتستوجب أدوات سياسية واقتصادية وأمنية متداخلة.

وفي لحظة إقليمية تتسم بالفراغ والاضطراب، تطرح مصر نفسها كمركز اتزان، لا يكتفي برد الفعل، بل يصوغ بدائل، ويخلق شراكات، ويملأ الفراغ قبل أن يملؤه الآخرون، ومن هنا، يتحول العمق الاستراتيجي لمصر من مجرد فكرة دفاعية، إلى سياسة هجومية ناعمة ترسّخ الاستقرار، وتُبقي للدولة الوطنية معناها ومكانتها في بيئة تتآكل فيها السيادة وتتنازعها الولاءات.

إن مصر لا تدير محيطها فقط، بل تعيد هندسة عمقها الاستراتيجي بمعايير جديدة، حيث الاستقرار ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية، والسيادة ليست شعارًا، بل مشروع عمل، والشراكة ليست اصطفافًا، بل استثمار طويل المدى في أمن المنطقة ومستقبلها.

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق